سطيـف عهد الرومان :
لقد كان يقطن ولاية سطيف منذ آلاف السنيـن سلالة تنتمـي إلـى رجل كرومانيو الذي انـحدر من ذريته الأمازيغ - الرجال الأحرار
- والذين تنظموا علـى شكل قبائل، ولـم تظهر الدولة الـجزائرية للوجود إلا بعد القرن الثالث والثانـي قبل الـميلاد عندما برزت
مـملكتيـن : المـملكة الـمسياسلية التـي كان يـحكمها سيفاكس، والمـملكة الثانية هـي مسيليا بقيادة مسينيسا.
واختلفت الأقوال حول ما إذا كانت سطيف تابعة لـمملكة مسينسا أو مـملكة سيفاكس، و الأرجـح أنها كانت للمملكة الـمسياسيلية
وهذا لأن مسينسا كان حليفا مـخلصا لروما - وهذا لا يعكس احتلال الرومان لشمال إفريقيا وثوران الشعب عليه - عكس سيفاكس
الذي كان حليفا لقرطاجنة، وقد أصبحت سطيف عاصمة للبرابرة عام 225 ق.م ولـم تفقد هذه الـمكانة إلا بعد قدوم "جـوبا" الذي
عدل عنها وجعل من مدينة شرشال عاصمة له.
وبعد انهزام قرطاجنة تـحصل ماسينسا نوميديا جزاء علـى تـحالفه وبقـي تـحت وصاية روما، وبعد وفاته ووفاة إبنه مسيبسا اشتدت
الـمنافسة بيـن الأحفاد ومنهم وأشهرهم يوغرطا الذي كان ينوي منح الاستقلال إلـى نوميديا، ولـم يتمكن من تـحقيق حـلمه
وهدفه، وسـمح ذلك الإخفاق للرومان بالتدخل لكن الأهالي بقيادة يوغرطا لـم ييأسوا، بل قاوموا ذلك الغزو، حتـى أن سطيف
شهدت أراضيها الـمعركة الشهيـرة والفاصلة بيـن يوغرطا وماريوس.
ومنذ 105 ق.م حتـى 42 م إزداد تدخل الرومان واصبح اكثر سفورا، مـما أدى إلـى نشوب العديد من الثورات أشهرها ثورة
تاكفاريناس الذي كان عضوا فـي الـجيش الرومانـي، وفـي الفترة ما بيـن 17م و 24م نظم جيشا من الأهالـي من بينهم سكان
منطقة سطيف الذين ساهموا مساهـمة فعالة فـي تلك الثورة.
وقد أدى تعدد الثورات والانتفاضات والـمقاومات إلـى دفع الرومان بضم كل الشمال الإفريقـي إلـى إمبراطوريتهم سنة 42م.
واهتـم الرومان بسطيف نظرا لـموقعها الـجغرافـي الـممتاز الذي يسيطر علـى السهول والـهضاب العليا الشاسعة والغنية بالقمح،
وتوفرها علـى حقول كبيـرة للـمياه الـجوفية، وموقعها الإستراتيـجـي عند سفح جبل بابور، التـي كانت مناسبة للـمقاومة
ونقطة انطلاق للثورات ضد الرومان.
ولـهذه الأسباب قرر الإمبراطور "نـيـرفا" سنة 97م إنشاء مستعمرة لقدماء الـجيش فـي موقع "سيتيفيس" والتـي أطلق عليها عدة
تسميات منها : كولونيا نيرفانيا، كولونيا أوغيسطا، كولونيا مارطاليس، كولونيا فيتيرنانة، ستيفانسيوم ...
وسيتيفيس تسمية رومانية مشتقة من كلمة بربرية "أزديف" ومعناها التربة السوداء، لذا كانت منطقة سطيف مـخزن القمح لروما، ولذا كثر
اهتمام روما بسطيف.
وفـي بداية التوسع العـمرانـي للرومان إتخذوا من "سيتيفيس" و"كويكول" مراكز عسكرية تطورت فيـما بعد لتصبح مدنا، وبنهاية
القرن 03 م ارتقت مدينة سطيف لتصبح عاصمة لـموريطانيا السطائفية. والتـي مكنتها من استقلالية إدارية انعكست علـى الـجانب
الاقتصادي فـي صبغة مـحلية ودولية أوصلها إلـى الـتحكم فـي التبادل الـتجاري وبـخاصة الـحبوب.
ونظرا لخطورة الوضع ومواجهة الوضع الـمتردي قرر الإمبراطور "ديوكرتيان" سنة 297م تقسيم موريطانيا القيصرية إلـى ناحيتيـن :
موريطانيا القيصرية و موريطانيا ستيفانيس التـي عاصمتها سطيف كما ذكرنا سابقا. وعرف هذا الكيان الإداري الـجديد نموا سريعا
ازدهرت فيه بعض المدن : كويكول -جـميلة-، ومونس، واد الذهب وبنـي فودة وطبعا سيتيفيس.
وباعتراف"قسطنطيـن الأول" سنة 306م بالـمسيحية دينا للدولة شهدت سيتيفيس و كويكول خاصة حركة عـمرانية مـميزة تـمثلت
فـي أحياء مسيحية كـحـي الكنائس بسطيف، لكن هذا التطور العمرانـي الـجديد وهذه الإجراءات الـمتخذة لـم تفلح فـي
إيقاف الفقر والتدهور الاقتصادي، وبذلك استمرت الثورات خاصة بعد الزلزال العنيف الذي ضرب سطيف وهدمها عن آخرها 6/5 سنة
419 م حيث يصف القديس "أوغيستان" هذه الكارثة قائلا : "لقد كانت الـهزات عنيفة إذ أن السكان أرغموا بالبقاء خارج بيوتهم طيلة
5 أيام".
ثـم بعد ذلك كان عهد الوندال وغزوهم للمدينة وهذا سنة 429 م عندما قدموا من "طـانـجـا" باتجاه "قــرطاج" ودام هذا العهد
وهذا الاحتلال إلـى غاية سنة 539 م. حيـن بدأ العهد البيزنطـي باحتلال العميد "سالمون" للـمدينة وقام بتـرميمها - لأنها دمرت
علـى إثر الزلزال ولـم يبق إلا عدد قليل من السكان - وجعلها عاصمة لإقليم موريطانيا الأولـى.
وقد شيد بها القلعة البيزنطية التـي لا يزال سورها الغربـي والـجنوبـي قائما إلـى الآن والتـي تشهد وتدل علـى أن البيزنطييـن
ركزوا علـى الـجانب الدفاعـي بـحيث أنهم حصنوا الـمدن ودعموها بـمراكز حراسة متقدمة فـي كامل الـمنطقة.
وكـخلاصة نقول أن مـجـيء البيزنطييـن إلـى شـمال إفريقيا كان مـحاولة فاشلة فـي إحياء مـجد الإمبراطورية الرومانية لأن
الـهيمنة البيزنطية لـم تستـمر طويلا نظرا لعدم سيطرتها علـى زمام الـحكم نتيجة تزايد الثورات وحتـى الإمبراطورية البيزنطية
ضعفت واستكانت أمام دعوة الـحق والعدل والـحرية والإسلام. وخلال كل هذه الفترة برزت عدة مناطق أثرية لـها قيمتها الـمحلية
وحتـى الدولية نذكر منها علـى سبيل الـمثال الـمواقع الأكثر شهرة :
الـمـوقــع الأول : كــويكــول (جـمـيلة ) فـي شـمال السهول العالية، وفـي قلب الـجبال بنـى الرومان مدينة
كويكول أي كما نسميها حاليا "جـميلة" فقد بنيت هذه الـمدينة فـي سنة 96-97 م علـى ارتفاع مـحجر فـي واد منفرج بيـن
سلسلة جبال لـها إمكانيات للدفاع طبيعية مـمتازة.
فـي وسط هذه الـمدينة توجد ساحة كبيـرة تدور حولـها الـحياة السياسية والـحياة الاجتماعية فـي بناءات عـمومية منها :
الـمحكمة - كـما تدعـى البازيليك - وقاعة الـمجلس البلدي، والـمعبد الـمهدى إلـى الآلهة "جوبيتيـر" حامية الـمدينة،
وبالقرب من هذه البناءات تدور الـحياة الاقتصادية فـي السوق.
وقد اشترك فـي هذا التشييد الـمعماري الرائع أعيان الأسر فـي جـميلة، التي توجد حتـى الآن آثار منازلـهم علـى حافة الطريق
التـي تشق الـمدينة من الشمال إلـى الـجنوب، هذه المنازل كانت مفروشة بالفسيفساء التـي حفظت منها أشكال كثيـرة فـي
الـمتحف، وتبيـن لنا مظاهر من الـحياة الاجتماعية كـما تقدم لنا صورا عن الـحيوان أو تشكيلات هندسية وكل هذا كان النقش
الذي يـميل إليه أهل جـميلة.
لقد كانت الـحياة الاقتصادية مزدهرة فـي القرن 2 م وأوائل القرن 3 م واستفادت جـميلة خصوصا من هذا الرخاء، لـهذا شيدت
بناءات من وراء الأسوار البدائية ومن هذه البناءات الـحمام والـمسرح، والساحة الكبيرة، الـمعابد وخاصة معبد الأسرة القيصرية
"سفيروس"، وقوس "كركلا" ودهاليـز و فوارات ... كذلك بنيت منازل رائعة كـمنزل باخوس، كـما بنـى الـمسيحيون معابد
متواضعة قربها مساكن لرجال الدين.
فـجميلة حقيقة مدينة رائعة ومتواضعة، أغلب مواردها فلاحية، وإنتاجها الرئيسـي يستخرج من الـمزارع الـمحيطة بالـمدينة أو من
أراضـي السهول والـجبال.
ويبقـى التساؤل الـمطروح : كيف توارت هذه الـمدينة واختفت وانجلت ؟
فـي الواقع لا أحد يعلم ذلك، إلا وجود بعض الـمعالم تدل علـى أن جـميلة كانت مسكونة وفيها حركة ولو بطيئة فـي خلال
القرنيـن 11 م و12 م والفخار الـمكتشف هناك يدل علـى ذلك. لكن كيف كانت الـحياة ومن عاش هناك؟ هنا يـحدث
الارتباك، ولا أحد يـملك الـجواب.